مَن صاحبُها يا ترى وما قصتُها؟
أضلّ ناقتين عُشَرَاوَيْنِ، أناخ جمله، وشرع في البحث عنهما في المحيط القريب،
ثم ابتعد أكثر فأكثرَ، ومن مضارب قومه إلى مضارب قومٍ آخرين، في الأفق البعيد،وكأنما نُصب له بيتٌ من شعَرٍ يجاور بعضَ البيوت، اقترب حتى وصل
إليهم، خرج صاحب البيت: مرحبًا بالضيف،دعاه إلى النزول:
أهلاً تفضل.
لكنَّني على عجلةٍ من أمري.
ما وراءك يا أخاالعرب؟
أبحث عن ناقتين عُشَرَاوَيْنِ ندَّتا لي.
وما سمتهما؟
عليهما ميسم بني دارم.
وصلتَ، هاهما ونتاجهما لك.
خرجت امرأة من الخباء المجاور،فقالت:
سيدي، إنّها تلد.
حسنًا، إن كان ذكرًا يشاركنا في أموالنا،
وإن كانت جاريةً فادفنوها فما لنا بها حاجة(خوف الفقر )
ثمّ عادت إلى خبائها.
تدخَّل صاحب الناقتين: تدفن مَن؟!
أدفن ابنتي، إن ولدت زوجتي جارية.
عادت المرأة من الخباء: وهي ترتجف خوفًا، وبصوت خافت:
سيدي، إنهاجارية.
ادفنوها.
صاحب الناقتين:
أنا أشتريهامنك.
ومن أخبرك أنّ العرب تبيع بناتِها؟!
لا أحدَ، فأنا عربيٌّ مثلك، ولكنني أشتري حياتها ودمَها، وتبقى عندك.
فماذا تريد؟
حسنًا، قل لي أنت ماذا تدفع؟
أدفع ناقتيّ هاتين.
ونتاجَهما.
ونتاجَهما.
لا يكفي.
وماذا تريد بعدُ؟!
جملَك هذا الذي تركب
.موافقٌ، على أن ترسلَ معي رسولاً حتى أصلَ إلى أهلي، فيعود بالجمل.
إنّها الصفقة الأولى في تاريخ العرب، إنّها مكرمةٌ لم يسبق صاحبَها أحدٌ من العرب،
مكرمةٌ فتحت البابَ لأصحاب
النفوس الأبيَّة والهمم العالية، أمَّاصاحبها فهو صعصعةُ جدُّ الفرزدق الذي يقولُ فيه:
أبي أحد الغيثين صعصعة الـذي * متى تخلف الجوزاء والدلو يمطر
أجار بنات الوائدين ومـن يجـر * على الفقر يعلم أنه غير مخفـر
على حين لا تحياالبنات وإذ هـم * عكوف على الأصنام حول المدور
فهو أوّل من فدَى الموؤوداتِ، وقد افتخر الفرزدقُ في مجلس سليمان بن عبدالملك،
فقال: أنا ابن محي الموتى،
فأنكروا عليه، فقال:
ألم تسمعوا قول الله تعالى : وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَاالنَّاسَ جَمِيعًا
وَجَدِّي الَّذِي مَنَعَ الْوَائِدَاتِ *** وَأَحْيَا الْوَئِيدَ فَلَمْ يُوأَدِ
}،فقال سليمان بن
عبدالملك: إنّك مع شعرك لفقيه.
الرئيسية 