كتبت الممثلة اللبنانية نادين نجيم عبر حسابها في تويتر بيت الشعر الآتي:
"لا تشكُ للناس جرجاً أنت صاحبه
لا يؤلم الجرح إلا من به ألمُ"
ثم ذيلت البيت باسم: "علي بن أبي طالب".
ساعات قليلة بعدها نشر موقع إلكتروني محلي لبناني خبراً ورد فيه: "نادين نجيم تنشر قولاً مأثوراً (للشاعر) علي بن أبي طالب". وبدا أن محرر الخبر أولى اهتمامه بالفنانة وهمّها، وتغافل عن شهرة الإمام علي كرم الله وجهه. وهذا أمر يحصل في زمن الصحافة السريعة. انهالت التعليقات الساخرة على ناشر الخبر، وبعضها لعب على وتر الاختلاف السياسي والطائفي مع الجهة المالكة للموقع، إلى أن جاء الرد من الصحافة التقليدية.
الإمام الشافعي؟ المتنبي؟ علي بن أبي طالب؟.. هذه كلها أسماء طرحها عليّ غوغل في ليلة البحث الطويلة، مع تزايد فضولي، وعزمي على الوصول إلى نتيجة قاطعة. لكن أياً من الروابط لم يقدني إلى مصدر موثوق
نشرت جريدة الأخبار اللبنانية مقالا انتقدت فيه تساهل الصحفي وعدم معرفته بشخصية تاريخية بهذه الشهرة، فكتبت: "من الواضح أن محرر الخبر لا يعرف من هو علي بن أبي طالب، فوصفه بالشاعر، ولم يلتفت أيضاً إلى أن نجيم أخطأت عندما نسبت البيت الشعري إلى الإمام علي بن أبي طالب بدل الشاعر كريم العراقي".
خطأ آخر؟ يا لها من صدفة، خطأ في المسمى يكشف خطأً أكبر في المصدر، ويا سلام على الصحافة العريقة والمتروية- قلتُ في نفسي. يبدو أن بيت الشعر المذكور ليس للإمام علي! دفعني هذا اللغط لمشاركة القصة مع مجموعة من الأصدقاء العراقيين عبر واتساب. ثم جاءني التأكيد الحاسم من أحدهم:
– يَمعوّد هذا البيت للشاعر كريم العراقي، كلتنا نعرفه!
لكنّ صديقي اللبناني علاء لم تعجبه هذه الرواية، فهو شغوف باللغة العربية ومفرداتها ومتبحر في قصائدها وعاشق لأدبائها:
– سامحك الله يا حسن! هذا البيت قطعا ليس لكريم العراقي. راح تخلليني أزعل منك!
– لمن هو إذاً؟
– لست متأكداً من صاحبه، لكنني أشتم فيه رائحة المتنبي، أو أحد شعراء ذلك العصر. وهذا واضح من طريقة بناء المفردات والأسلوب..
أمهلته للمساء حتى يعود لمنزله ويأتيني بالمصدر الموثق من إحدى موسوعاته الشعرية.
في هذه الأثناء لجأت إلى أسهل الحلول وأقربها: السيد غوغل. وهناك لا تكاد تكتب أول ثلاث أحرف: لا تش….، حتى يكمل لك محرك البحث بيت الشعر كاملا مع اسم (كريم العراقي) في مطلعها. وفي النتائج عشرات الروابط يقود أغلبها إلى فيديو قديم للشاعر نفسه، وفيه يلقي كريم قصيدة ينتقل فيها من البيت المذكور إلى أبيات أخرى نظمها بالعامية العراقية. الأمر هنا بدا أقرب إلى الاقتباس، وعزز بالنسبة لي من فرضية استعارة الشاعر لبيت تراثي، وهو أمر شائع ومستخدم لدى عدد من الشعراء.
من هو صاحب البيت الأصلي إذاً؟!
الإمام الشافعي؟ المتنبي؟ علي بن أبي طالب؟.. هذه كلها أسماء طرحها عليّ غوغل في ليلة البحث الطويلة، مع تزايد فضولي، وعزمي على الوصول إلى نتيجة قاطعة. لكن أياً من الروابط لم يقدني إلى مصدر موثوق.
لجأت إلى صديق قديم، وهو شاعر سوري. وقبل التحية بدأت اتصالي بإلقاء بيت الشعر عليه، فطرب له، ثم جاء على ذكر المتنبي، وبدا له من قافية البيت أنه قد يكون مقتطفا من القصيدة الشهيرة: "واحر قلباه ممّن قلبُه شبَمُ.." ووعد بالبحث والتحقق والعودة إليّ. وبعد ساعات عاد بخفي حنين قائلاً: "دوختني والله"، ثم أردف مرسلاً صورة (سكرين شوت) لمحادثته مع أستاذ ومؤلف وباحث في الأدب واللغة العربية، وقد أجابه أستاذنا: "غوغل يزعم أنه لعلي بن أبي طالب". وهنا زاد تعجبي، من عجز ذوي التخصص عن الوصول إلى أصل بيت شعري واحد! وشعرت بأن تلك الإجابة أعادتني إلى المربع الأوّل.
بعد أيام، جمعتني استراحة عمل مع عدد من الأصدقاء، فأخذت أروي لهم قصة البيت اللغز، إلى أن قاطعني صديقي الصحفي اليمني قائلا: مهلاً، أهذه قصيدة "رحّال" التي ألّفها كريم العراقي؟!
قلت نعم. فأكمل بحماسة:
هذه القصيدة غناها كاظم الساهر، وقد أسميت ابني البكر "رحال" لإعجابي بها. ثم زادني أبو رحال معلومة كانت بالنسبة إلي بمثابة الخيط الحاسم للوصول إلى الحقيقة، إذ قال: "أعرف الشاعر كريم العراقي شخصياً وقد التقيته قبل سنوات وسردتُ له قصة تسميتي لرحّال، وبقينا على تواصل متقطع، والآن سأرسل له أسأله عن البيت".
علمنا لاحقاً أن كريم العراقي يخضع للعلاج في الغربة، بعد أن ألم به مرض شديد -شفاه الله-. لكنه بعد نحو أسبوع من رسالة صديقي عاد بالرد إليه، موضحاً قصته القديمة مع بيت الشعر هذا: "لي مع هذا البيت قصة طويلة، وقد أحببت أن أسردها في قصيدتي، لكن يبدو أن كثيراً من الناس مع الأسف لم ينتبهوا لما أوضحته في مطلعها، ولم يقرؤوها بتمعّن".
undefined
الشاعر كريم العراقي
يتابع العراقي: "هذا البيت الشعري يتيم، وأذكره منذ طفولتي حينما كتبه أستاذي في المدرسة على السبورة، وحفظته وأعجبت به، ومع مرور السنوات لم أجد له أصلا ولا نسباً، وذكرته في إحدى قصائدي قديماً، ثم أحببت أن أُكرمه بعدها بقصيدة على وزنه، قلت في مطلعها:
بيتٌ من الشعر أذهلني بروعتِهَ … توسّدَ القلب مذ أن خطَّه القلمُ
أضحى شِعاري وحفّزني لأُكرِمَهُ … عشرينَ بيتاً لها من مِثلِهِ حِكَمُ
لا تشكُ للناس جرحاً أنت صاحبُهُ … لا يؤلم الجرح إلا من به ألمُ
ثم أكمل كريم قصيدته على هذا المذهب، ويقول إنه كتب أبياتها مؤخراً وهو على فراش المرض.
يقول صديقي علاء الذي صدق حدسه: "كثير من الشعر لم يُنسب ولم يُثبت في الدواوين وهذا معروف، لذلك قلت لك هذا المعنى أعرفه، وبالبحث تبين أنه غير مثبت بديوان بهذا اللفظ. لكن أصل المعنى ورد في شعر المتنبي".
ويقول صديقي الشاعر السوري: "جُل ما تجده على غوغل منسوباً للإمام الشافعي أو الإمام عليّ، هو غالباً ليس لأيٍ منهما، لكن القوم يحبّون تعظيم شأن بعض الأقوال المأثورة فيحيلونها إلى شخصيات يحبونها ذات مكانة ورفعة في التاريخ".
تغريدة لفنانة، وتعقيب من الصحافة، وبعض الصدف، لفتت انتباهي لمفارقات عدة وأبعاد كثيرة لما يحدث في العصر الحديث للصحافة وأدواتها. لكنها قادتني إلى حقيقة واحدة: الاعتماد على غوغل كمرجع، كثيراً ما يشبه تصديق رواية الحكواتي الذي كان يروي القصص في المقاهي العربية.